أحد العشرة المبشرين بالجنة أمين هذه الأمة، شهد الغزوات كلها، أحد قادة فتوح الشام، كان أبوه في صف المشركين فنازله وقتله، وتوفي رضي الله عنه بطاعون عمواس.
كان أبو عبيدة أَهْتم، وذلك أنه نزع الحلقتين اللتين دخلتا في وَجْه النبي صَلَّى الله عليه وسلم من الْمِغْفَر يوم أحد، فإنتزعت ثنيتاه فحسَّنتا فاه، فيقال: إنه ما رؤي أهتم قط أحسن من هَتَم أبي عبيدة.
وكان رجلًا نحيفًا، معروقَ الوجه، خفيف اللحية، طوالًا، أجنأ، أثْرَمَ الثّنِيّتَيْن، وهو أحد العشرة السابقين إلى الإسلام، فكان إسلام أبو عبيدة، وعثمان بن مظعون، وعبيدة بن الحارث بن المطلب، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد في ساعةٍ واحدة، قَبل دخولِ النبي صَلَّى الله عليه وسلم دارَ الأرقم، وهاجر أبو عبيدة إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية.
شهد بدرًا وهو ابن إحدى وأربعين سنة، وشهد أُحُدًا، وثَبَتَ يومَها مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم حين إنهزم الناس وولّوا، وعن عائشة قالت: سمعتُ أبا بكر يقول: لمّا كان يوم أُحُد ورُميَ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في وجهه حتى دَخَلَتْ في أُجْنَتَيْهِ حَلْقَتان من المِغْفَر، فأقْبَلْتُ أسعى إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وإنْسانٌ قَدْ أقبَلَ من قِبَل المشرق يَطيرُ طَيَرَانًا، فقلتُ: اللّهمّ اجْعَلْهُ طاعةً، حتى توافينا إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فإذا أبو عبيدة بن الجرّاح، قد بَدَرَني فقال: أسْألُكَ بالله يا أبا بَكْر إلَّا تَرَكْتَني فَأنْزِعَه من وَجْنَةِ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، قال أبو بكر: فَتَرَكْتُه، فأخَذَ أبو عُبَيدة بثَنيّة إحْدى حَلْقَتي المِغْفَر فنَزَعها وسقط على ظهره، وسقطت ثَنيّةُ أبي عبيدة، ثمّ أخذ الحلقة الأخْرى بثَنيّتة الأخرى فسقطت، فكان أبو عُبيدة في الناس أثْرَمَ.
وشهِد أبو عبيدة المشاهد كلّها مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وبعثه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في سريّةً في ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار إلى حيٍّ من جُهينة بساحل البحر، وهي غَزْوَة الخَبَط، فعن جابر قال: بَعَثَنَا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم مع أبي عبيدة بن الجرّاح ونحن ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا، وَزَوّدَنَا جرابًا من تمر فأعطانا منه قُبْضَةً قُبْضَة، فلمّا أنْجزناه أعطانا تَمْرَةً تمرة، فلمّا فقدناها وَجَدْنا فَقْدَهَا، ثمّ كنّا نَخْبِطُ الخَبَطَ بقِسيّنا، ونَسَفّه، ونَشْرَبُ عليه من الماء حتّى سُمّينا جيش الخَبَط، ثمّ أخذنا على الساحل، فإذا دابّةٌ ميتّةٌ مثل الكثيب يقال لها: العنبر، فقال أبو عبيدة، مَيّتَةٌ لا تأكلوا، ثمّ قال: جيشُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وفي سبيل الله ونحن مُضطرّونَ، فأكَلْنا منه عشرين ليلة أو خمس عشرة ليلة، واصطنعنا منه وَشيقَةً، قال: ولقد جَلَسَ ثلاثة عشر رجلًا منّا في موضع عَيْنِه، وأقام أبو عبيدة ضِلَعًا من أضْلاعه فرَحّلَ أجْسَمَ بَعير من أباعر القوم فأجازه تحته، فلمّا قَدِمْنا على رسول الله قال: «ما حَبَسَكُم؟» قال: كنّا نبتغي عيراتِ قريش، فذكرنا له شأن الدابّة فقال: «إنّما هُوَ رِزْقٌ رَزَقَكموه الله، أمَعَكم منه شيءٌ؟» قلنا: نعم،
أمّر النبيُّ صَلَّى الله عليه وسلم عَمْرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل، وهي مِنْ مشارف الشام، فخشي عمرو، فبعث يستمد، فندب النبيُّ صَلَّى الله عليه وسلم الناسَ من المهاجرين الأولين، فإنتدب أبو بكر وعُمر في آخرين، فأمّر عليهم أبا عُبيدة بن الجراح مدَدا لعَمْرو بن العاص، فلما قدموا عليه قال: أنا أميركم، فقال المهاجرون: بل أنتَ أمير أصحابك، وأبو عبيدة أمير المهاجرين، فقال: إنما أنتم مدَدِي، فلما رأى ذلك أبو عبيدة، وكان حسن الخلق متبعا لأمرِ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وعهْده، فقال: تعلم يا عمرو، أنَّ رسولَ الله صَلَّى الله عليه وسلم قال لي: «إنْ قَدِمْتَ عَلَى صَاحبكَ فَتَطَاوَعا»، وإنك إن عصيتني أطعتك.
وكان أَحد الأُمراءَ المسيرين إِلى الشام، والذين فتحوا دمشق، ولمّا ولي عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، ولّى أبا عُبيدة الشام، فشهد اليرموك وهو أمير النّاس.
[] منـــاقبه:
وسئلت عائشة: أيُّ أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم كان أحب إليه؟ قالت: أبو بكر، قال السائل: ثم من؟ قالت: عُمر، قال السائل: ثم مَنْ؟ قالت: أبو عبيدة بن الجرَّاح.
وكان أَبو عبيدة يُدْعَى في الصّحابة القويّ الأمين، لقول رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لأهل نجران: «لأُرْسِلَنَّ مَعَكُمُ الْقَوِيَّ الأَمِينَ»، ولقول رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: «ِكُلِّ أُمَّةٍ أَمينٌ، وَأَمِينُ أُمَّتِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ»، فعن حُذيفة أنّ ناسًا من أهل نَجْران أتوا النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، فقالوا: ابْعَثْ معنا رجُلًا أمينًا، قال: «لأَبْعَثَنَّ إليكم رجلًا أمينًا، حَقَّ أمينٍ، حَقّ أمين، حَقّ أمين»، قالها ثلاثًا، فإستشرف لها أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، قال: فبعث أبا عبيدة بن الجرّاح.
وعن أبي هُريرة عن النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم قال: «نِعْمَ الرجلُ أبو عبيدة بن الجرّاح»، وقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ أَصْحَابِي أَحَدٌ إِلّا لَوْ شِئْتُ لَوَجدْتُ عَلَيْهِ إِلّا أَبَا عُبَيْدَةَ» وقال فيه أبو بكر الصدّيق يوم السّقيفة: لقد رضيْتُ لكم أحدَ الرّجلين، فبايِعُوا أيهما شئتم: عمر، وأبو عبيدة بن الجرّاح.
وبلغ معاذ بن جبل أنَّ بعضَ أهل الشام إستعجز أبا عبيدة أيامَ حصار دمشق، ورجَّح خالد بن الوليد، فغضب معاذ، وقال: أبأبي عبيدة يُظن! والله إنه لمن خيرة مَنْ يمشي على الأرض. ولما قدم عمر الشام فتلقاه أمَراء الأجناد، فقال: أين أخي أبو عبيدة؟ فقالوا: يأتي الآن، فجاء على ناقةٍ مخطومة بحَبْلٍ، فسلم عليه وساء له حتى أتى منزله، فلم نر فيه شيئًا إلا سيفه، وتُرْسَه، ورَحْله، فقال له عمر: لو إتخذت متاعًا؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن هذا يبلغنا المقيل، فقال عمر: كلنا غَيَّرته الدنيا غَيرَك يا أَبا عبيدة.
وهو الذي قال لعمر: أنفِرُّ من قَدَر الله؟ فقال: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفرُّ من قَدر الله تعالى إلى قدر الله تعالى، وذلك دالٌّ على جلالة أبي عبيدة عند عمر، وقال عمر بن الخطّاب لجلسائه ذات يوم: تَمَنَّوْا، فَتَمَنّوْا، فقال عمر بن الخطّاب: لكنّي أتَمَنّى بيتًا ممتلئًا رجالًا مثل أبي عبيدة بن الجرّاح، وروي أن عمر بن الخطّاب أرسل إلى أبي عبيدة بأربعة آلاف درهم وأربعمائة دينار، وقال للرسول: انْظُرْ ما يَصْنَعُ، قال: فَقَسَمَها أبو عبيدة، قال: ثمّ أرسل إلى مُعاذ بمثلها، وقال للرسول مثلَ ما قال، فقسمها معاذ إلاّ شيئًا قالت امرأته: نحتاج إليه، فلمّا أخبر الرسول عمر قال: الحمد لله الذي جعل في الإسلام من يصنع هذا.
وعن قتادة أنّ أبا عبيدة بن الجرّاح قال: وَدِدتُ أني كَبْشٌ فَذَبَحَني أهْلي، فأكلوا لحمي وحَسَوْا مَرَقي..
[] وفـــــاته:
ولما نَزَل طاعون عمْواس كان أَبو عبيدة معافى منه وأَهله، فقال: اللهُمَّ، نصيبك في آل أَبي عبيدة، قال: فخرجتْ بأَبي عبيدة في خنصرِه بثرَة، فجعل ينظر إِليها، فقيل له: إِنها ليست بشيءٍ، فقال: إِني لأَرجو أَن يبارك الله فيها، فإِنه إِذا بارك في القليل كان كثيرًا، قال عِرْباض بن السارية: دخلتُ على أبي عُبيدة بن الجرّاح في مرضه الذي مات فيه وهو يموت فقال: سمعتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: «المطعون شهيد، والمبطون شهيد، والغريق شهيد، والحَرِق شهيد، والهَدَم شَهيد، والمرأةُ تَموتُ بجُمْعٍ شهيدة، وذات الجنب شهيدة»، وكان وقتها بالأردنْ وفلسطين، وبها قَبْر أبو عبيدة، وصَلَّى عليه معاذ بن جَبَل، ونزل في قبره معاذ، وعمرو بن العاص، والضْحاك بن قيس، وعمره ثمان وخمسون سنة.
ولما مات خطب معاذ فقال في خطبته: وإنكم فجعتم برجل، ما أزعم والله أني رأيتُ من عباد الله قط أقل حِقْدًا، ولا أبرَّ صدرًا، ولا أبعد غائلة، ولا أشد حياء للعاقبة، ولا أنصح للعامة منه، فترحموا عليه.
المصدر: موقع صحابة رسول الله.